فصل: تفسير الآية رقم (284)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏267- 271‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏267‏)‏ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏268‏)‏ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏269‏)‏ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ‏(‏270‏)‏ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏271‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏مِن طيبات مَا كَسَبْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ من جيد ما كسبتم، ومختاره، كذا قال الجمهور‏.‏ وقال جماعة‏:‏ إن معنى الطيبات هنا‏:‏ الحلال‏.‏ ولا مانع من اعتبار الأمرين جميعاً؛ لأن جيد الكسب، ومختاره إنما يطلق على الحلال عند أهل الشرع، وإن أطلقه أهل اللغة على ما هو جيد في نفسه حلالاً كان أو حراماً، فالحقيقة الشرعية مقدّمة على اللغوية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مّنَ الارض‏}‏ أي‏:‏ ومن طيبات ما أخرجنا لكم من الأرض، وحذف لدلالة ما قبله عليه، وهي‏:‏ النباتات، والمعادن، والركاز‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث‏}‏ أي‏:‏ لا تقصدوا المال الرديء، وقرأه الجمهور بفتح حرف المضارعة وتخفيف الياء، وقرأ ابن كثير بتشديدها‏.‏ وقرأ ابن مسعود‏:‏ «ولا تأمموا» وهي لغة‏.‏ وقرأ أبو مسلم بن خباب بضم الفوقية، وكسر الميم‏.‏ وحكى أبو عمرو‏:‏ أن ابن مسعود قرأ‏:‏ «تئمموا» بهمزة بعد المضمومة، وفي الآية الأمر بإنفاق الطيب، والنهي عن إنفاق الخبيث‏.‏ وقد ذهب جماعة من السلف إلى أن الآية في الصدقة المفروضة، وذهَب آخرون إلى أنها تعم صدقة الفرض، والتطوّع، وهو‏:‏ الظاهر، وسيأتي من الأدلة ما يؤيد هذا، وتقديم الظرف في قوله‏:‏ ‏{‏مِنْهُ تُنفِقُونَ‏}‏ يفيد التخصيص أي‏:‏ لا تخصوا الخبيث بالإنفاق، والجملة في محل نصب على الحال أي‏:‏ لا تقصدوا المال الخبيث مخصصين الإنفاق به قاصرين له عليه‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ‏}‏ أي‏:‏ والحال أنكم لا تأخذونه في معاملاتكم في وقت من الأوقات هكذا بين معناه الجمهور، وقيل‏:‏ معناه‏:‏ ولستم بآخذيه لو وجدتموه في السوق يباع‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ‏}‏ هو من أغمض الرجل في أمر كذا‏:‏ إذا تساهل ورضي ببعض حقه، وتجاوز، وغض بصره عنه، ومنه قول الشاعر‏:‏

إلى كَمْ وَكَمْ أشْيَاءُ مِنْكَ تُرِيبُني *** أُغَمِّض عنها لستُ عَنْها بِذي عَمَي

وقرأ الزهري بفتح التاء، وكسر الميم مخففاً‏.‏ وروى عنه أنه قرأ بضم التاء، وفتح الغين، وكسر الميم مشدّدة، وكذلك قرأ قتادة، والمعنى على القراءة الأولى من هاتين القراءتين‏:‏ إلا أن تهضموا سومها من البائع منكم، وعلى الثانية‏:‏ إلا أن تأخذوا بنقصان‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وقراءة الجمهور تخرّج على التجاوز، أو على تغميض العين، لأن أغمض بمنزلة غمض، وعلى أنها بمعنى حتى، أي‏:‏ حتى تأتوا غامضاً من التأويل، والنظر في أخذ ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر‏}‏ قد تقدّم معنى الشيطان، واشتقاقه‏.‏ و‏{‏يعدكم‏}‏ معناه يخوّفكم الفقر أي‏:‏ بالفقر لئلا تنفقوا، فهذه الآية متصلة بما قبلها‏.‏ وقريء‏:‏ «الفقر» بضم الفاء، وهي لغة‏.‏ قال الجوهري‏:‏ والفقر لغة في الفقر، مثل الضعف، والضعف‏.‏ والفحشاء الخصلة الفحشاء، وهي المعاصي، والإنفاق فيها، والبخل عن الإنفاق في الطاعات‏.‏

قال في الكشاف‏:‏ والفاحش عند العرب البخيل‏.‏ انتهى‏.‏ ومنه قول طرفة بن العبد‏:‏

أَرَى الموتَ يَعْتامُ الكِرَامَ وَيْصَ *** طِفى عَقِيلةَ مالِ الفَاحِش المُتَشَدِّدِ

ولكن العرب، وإن أطلقته على البخيل، فذلك لا ينافي إطلاقهم له على غيره من المعاصي، وقد وقع كثيراً في كلامهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مّنْهُ وَفَضْلاً‏}‏ الوعد في كلام العرب‏:‏ إذا أطلق، فهو في الخير، وإذا قيد، فقد يقيد تارة بالخير، وتارة بالشرّ‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 72‏]‏ ومنه أيضاً ما في هذه الآية من تقييد، وعد الشيطان بالفقر، وتقييد وعد الله سبحانه بالمغفرة، والفضل‏.‏ والمغفرة‏:‏ الستر على عباده في الدنيا، والآخرة لذنوبهم، وكفارتها، والفضل أن يخلف عليهم أفضل مما أنفقوا، فيوسع لهم في أرزاقهم، وينعم عليهم في الآخرة بما هو أفضل، وأكثر، وأجل، وأجمل‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏يُؤْتِى الْحِكْمَةَ‏}‏ هي‏:‏ العلم، وقيل‏:‏ الفهم، وقيل‏:‏ الإصابة في القول‏.‏ ولا مانع من الحمل على الجميع شمولاً، أو بدلاً‏.‏ وقيل‏:‏ إنها النبوة‏.‏ وقيل‏:‏ العقل‏.‏ وقيل‏:‏ الخشية‏.‏ وقيل‏:‏ الورع‏.‏ وأصل الحكمة‏:‏ ما يمنع من السفه، وهو كل قبيح‏.‏ والمعنى‏:‏ أن من أعطاه الله الحكمة، فقد أعطاه خيراً كثيراً‏.‏ أي‏:‏ عظيماً قدره، جليلاً خطره‏.‏ وقرأ الزهري، ويعقوب‏:‏ «ومن يؤت الحكمة» على البناء للفاعل، وقرأه الجمهور على البناء للمفعول، والألباب‏:‏ العقول، واحدها لبّ، وقد تقدّم الكلام فيه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَةٍ‏}‏ ‏"‏ ما ‏"‏ شرطية، ويجوز أن تكون موصولة، والعائد محذوف أي‏:‏ الذي أنفقتموه، وهذا بيان لحكم عام يشمل كل صدقة مقبولة، وغير مقبولة، وكل ندر مقبول، أو غير مقبول‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ‏}‏ فيه معنى الوعد لمن أنفق ونذر على الوجه المقبول، والوعيد لمن جاء بعكس ذلك‏.‏ ووحد الضمير مع كون مرجعه شيئين، هما النفقة، والنذر؛ لأن التقدير‏:‏ وما أنفقتم من نفقة، فإن الله يعلمها، أو نذرتم من نذر، فإن الله يعلمه، ثم حذف أحدهما استغناء بالآخر، قاله النحاس‏.‏ وقيل‏:‏ إن ما كان العطف فيه بكلمة‏:‏ «أو» كما في قولك‏:‏ زيد، أو عمرو، فإنه يقال‏:‏ أكرمته، ولا يقال‏:‏ أكرمتهما، والأولى أن يقال‏:‏ إن العطف ب ‏"‏ أو ‏"‏ يجوز فيه الأمران توحيد الضمير، كما في هذه الآية، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أو لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 112‏]‏، وتثنيته كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 135‏]‏ ومن الأوّل في العطف بالواو قول امرئ القيس‏:‏

فتُوضِح فالمِقْراةِ لم يَعْفُ رسمها *** لِما نَسَجَتْه من جَنُوبِ وَشَمأَلِ

ومنه قول الشاعر‏:‏

نَحْن بِما عِنْدنا وَأنتَ بِما *** عِنْدكَ رَاضٍ وَالرَّأي مُخْتَلِفٌ

ومنه ‏{‏والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 34‏]‏ وقيل‏:‏ إنه إذا وحد الضمير بعد ذكر شيئين، أو أشياء، فهو بتأويل المذكور أي‏:‏ فإن الله يعلم المذكور، وبه جزم ابن عطية، ورجحه القرطبي، وذكر معناه كثير من النحاة في مؤلفاتهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ‏}‏ أي‏:‏ ما للظالمين أنفسهم، بما وقعوا فيه من الإثم لمخالفة ما أمر الله به من الإنفاق في وجوه الخير من أنصار ينصرونهم يمنعونهم من عقاب الله بما ظلموا به أنفسهم، والأولى الحمل على العموم من غير تخصيص لما يفيده السياق، أي‏:‏ ما للظالمين بأيّ مظلمة كانت من أنصار‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِىَ‏}‏ قرئ بفتح النون، وكسر العين، وبكسرهما، وبكسر النون، وسكون العين، وبكسر النون، وإخفاء حركة العين‏.‏ وقد حكى النحويون في‏:‏ «نعمّ» أربع لغات، وهي‏:‏ هذه التي قرئ بها، وفي هذا نوع تفصيل لما أجمل في الشرطية المتقدمة، أي‏:‏ إن تظهروا الصدقات، فنعم شيئاً إظهارها، وإن تخفوها، وتصيبوا بها مصارفها من الفقراء، فالإخفاء خير لكم‏.‏ وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية في صدقة التطوّع لا في صدقة الفرض، فلا فضيلة للإخفاء فيها بل قد قيل‏:‏ إن الإظهار فيها أفضل، وقالت طائفة‏:‏ إن الإخفاء أفضل في الفرض، والتطوّع‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَيُكَفّرُ عَنكُم مّن سَيّئَاتِكُمْ‏}‏ قرأ أبو عمرو، وابن كثير، وعاصم في رواية أبي بكر، وقتادة، وابن إسحاق ‏"‏ نكفر ‏"‏ بالنون، والرفع‏.‏ وقرأ ابن عامر، وعاصم في رواية حفص بالياء، والرفع‏.‏ وقرأ الأعمش، ونافع، وحمزة، والكسائي، بالنون، والجزم‏.‏ وقرأ ابن عباس بالتاء الفوقية، وفتح الفاء، والجزم‏.‏ وقرأ الحسين بن علي الجعفي بالنون، ونصب الراء‏.‏ فمن قرأ بالرفع، فهو معطوف على محل الجملة الواقعة جواباً بعد الفاء، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف‏.‏ ومن قرأ بالجزم، فهو معطوف على الفاء، وما بعدها‏.‏ ومن قرأ بالنصب فعلى تقدير ‏"‏ أن ‏"‏ قال سيبويه‏:‏ والرفع هاهنا الوجه الجيد، وأجاز الجزم بتأويل، وإن تخفوها يكن الإخفاء خيراً لكم، ويكفر، وبمثل قول سيبويه قال الخليل‏.‏ ومن في قوله‏:‏ ‏{‏مّن سَيّئَاتِكُمْ‏}‏ للتبعيض، أي‏:‏ شيئاً من سيئاتكم‏.‏ وحكى الطبري عن فرقة أنها زائدة، وذلك على رأي الأخفش‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وذلك منهم خطأ‏.‏

وقد أخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طيبات مَا كَسَبْتُمْ‏}‏ قال‏:‏ من الذهب، والفضة ‏{‏وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مّنَ الارض‏}‏ يعني من الحبّ، والثمر، وكل شيء عليه زكاة‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏أَنفِقُواْ مِن طيبات مَا كَسَبْتُمْ‏}‏ قال‏:‏ من التجارة‏:‏ ‏{‏وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مّنَ الأرض‏}‏ قال‏:‏ من الثمار‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والترمذي وصححه، وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه عن البراء بن عازب في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنفِقُونَ‏}‏ قال‏:‏ نزلت فينا معشر الأنصار، كنا أصحاب نخل، وكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته، وقلته، وكان الرجل يأتي بالقِنْو والقِنْوين، فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع أتى القِنو فضربه بعصاه، فيسقط البسر، والتمر، فيأكل، وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص، والحشف، وبالقنو قد انكسر، فيعلقه، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طيبات مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مّنَ الأرض وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ إلا أن تعصموا فيه‏}‏ قال‏:‏ لو أن أحدكم أهدى إليه مثل ما أعطى لم يأخذه إلا على إغماض، وحياء‏.‏

قال‏:‏ فكنا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة قال‏:‏ ذكر لنا أن الرجل كان يكون له الحائطان، فينظر إلى أردئهما تمراً، فيتصدق به، ويخلط به الحشف، فنزلت الآية، فعاب الله ذلك عليهم، ونهاهم عنه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن جعفر بن محمد عن أبيه قال‏:‏ لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر، فجاء رجل بتمر رديء، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي يخرص النخل أن لا يجيز‏.‏ فأنزل الله تعالى الآية هذه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وأبو داود، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي في سننه عن سهل بن حنيف قال‏:‏ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فجاء رجل بكبائس من هذا السخل‏:‏ يعني‏:‏ الشيص فوضعه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ «من جاء بهذا‏؟‏» وكان كل من جاء بشيء نسب إليه، فنزلت‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث‏}‏ الآية‏.‏ ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لونين من التمر أن يوجدا في الصدقة، الجعرور ولون الحُبَيْق‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، والضياء في المختارة عن ابن عباس قال‏:‏ كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يشترون الطعام الرخيص، ويتصدّقون، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن عَبِيدة السَّلماني قال‏:‏ سألت علي بن أبي طالب عن قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَنفِقُواْ‏}‏ الآية، فقال‏:‏ نزلت هذه الآية في الزكاة المفروضة، كان الرجل يعمد إلى التمر، فيصرمه، فيعزل الجيد ناحية، فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه من الرديء‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء‏}‏ قال‏:‏ المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، محكمه ومتشابهه، ومقدّمه ومؤخره، وحلاله وحرامه وأمثاله‏.‏

وأخرج ابن مردويه عنه‏:‏ أنها القرآن يعني‏:‏ تفسيره‏.‏ وأخرج ابن المنذر عنه أنها النبوّة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه قال‏:‏ إنها الفقه في القرآن‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي الدرداء‏:‏ ‏{‏يُؤْتِى الْحِكْمَةَ‏}‏ قال‏:‏ قراءة القرآن، والفكرة فيه‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية قال‏:‏ هي الكتاب، والفهم به‏.‏ وأخرج أيضاً عن النخعي نحوه، وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد قال‏:‏ هي الكتاب يؤتى إصابته من يشاء‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عنه قال‏:‏ هي الإصابة في القول‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي العالية قال‏:‏ هي الخشية لله‏.‏ وأخرج أيضاً عن مَطَر الوَرَّاق مثله‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن سعيد بن جبير مثله‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ‏}‏ قال‏:‏ يحصيه‏.‏ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في نذر الطاعة، والمعصية في الصحيح، وغيره ما هو معروف، كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لانذر في معصية الله» وقوله‏:‏ «من نذر أن يطيع الله، فليطعه، ومن نذر أن يعصيه، فلا يعصه» وقوله‏:‏ «النذر ما ابتغى به وجه الله» وثبت عنه في كفارة النذر ما هو معروف‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِىَ‏}‏ الآية، قال‏:‏ فجعل السرّ في التطوّع يفضل علانيتها سبعين ضعفاً، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفاً‏.‏ وكذلك جميع الفرائض، والنوافل في الأشياء كلها‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِن تُبْدُواْ الصدقات‏}‏ الآية، قال‏:‏ كان هذا يعمل قبل أن تنزل براءة، فلما نزلت براءة بفرائض الصدقات، وتفصيلها انتهت الصدقات إليها‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِن تُبْدُواْ الصدقات‏}‏ الآية، قال‏:‏ هذا منسوخ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فِى أموالهم حَقٌّ مَّعْلُومٌ لَّلسَّائِلِ والمحروم‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 25‏]‏ قال‏:‏ منسوخ، نسخ كل صدقة في القرآن الآية التي في سورة التوبة‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاء‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 60‏]‏ وقد ورد في فضل صدقة السرّ أحاديث صحيحة مرفوعة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏272- 274‏]‏

‏{‏لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ‏(‏272‏)‏ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ‏(‏273‏)‏ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏274‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ‏}‏ أي‏:‏ ليس بواجب عليك أن تجعلهم مهديين قابلين لما أمروا به ونهوا عنه‏:‏ ‏{‏ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء‏}‏ هداية توصله إلى المطلوب، وهذه الجملة معترضة، وفيها الالتفات، وسيأتي بيان السبب الذي نزلت لأجله، والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏مّنْ خَيْرٍ‏}‏ كل ما يصدق عليه اسم الخير كائناً ما كان، وهو متعلق بمحذوف، أي‏:‏ أيّ شيء تنفقون كائناً من خير، ثم بين أن النفقة المعتدّ بها المقبولة إنما هي ما كان ابتغاء وجه الله سبحانه، أي‏:‏ لابتغاء وجه الله‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يُوَفَّ إِلَيْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ أجره، وثوابه على الوجه الذي تقدّم ذكره من التضعيف‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لِلْفُقَرَاء‏}‏ متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ‏}‏ أو بمحذوف‏:‏ أي‏:‏ اجعلوا ذلك للفقراء، أو خبر مبتدأ محذوف‏:‏ أي‏:‏ إنفاقكم للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله بالغزو، أو الجهاد، وقيل‏:‏ منعوا عن التكسب لما هم فيه من الضعف ‏{‏الذين لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الأرض‏}‏ للتكسب بالتجارة، والزراعة، ونحو ذلك بسبب ضعفهم‏.‏ قيل‏:‏ هم فقراء الصفة‏.‏ وقيل‏:‏ كل من يتصف بالفقر، وما ذكر معه‏.‏ ثم ذكر سبحانه من أحوال أولئك الفقراء ما يوجب الحُنُوّ عليهم، والشفقة بهم، وهو‏:‏ كونهم متعففين عن المسئلة، وإظهار المسكنة بحيث يظنهم الجاهل بهم أغنياء‏.‏ والتعفف تفعل، وهو بناء مبالغة من عف عن الشيء‏:‏ إذا أمسك عنه، وتنزّه عن طلبه، وفي‏:‏ «يحسبهم» لغتان‏:‏ فتح السين، وكسرها‏.‏ قال أبو عليّ الفارسيّ‏:‏ والفتح أقيس؛ لأن العين من الماضي مكسورة، فبابها أن تأتي في المضارع مفتوحة‏.‏ فالقراءة بالكسر على هذا حسنة، وإن كانت شاذة‏.‏ و«من» في قوله‏:‏ «من التعفف» لابتداء الغاية، وقيل‏:‏ لبيان الجنس‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏تَعْرِفُهُم بسيماهم‏}‏ أي‏:‏ برثاثة ثيابهم، وضعف أبدانهم، وكل ما يشعر بالفقر، والحاجة‏.‏ والخطاب إما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح للمخاطبة، والسيما مقصورة‏:‏ العلامة، وقد تمد‏.‏ والإلحاف‏:‏ الإلحاح في المسئلة، وهو مشتق من اللحاف، سمي بذلك؛ لاشتماله على وجوه الطلب في المسئلة، كاشتمال اللحاف على التغطية‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏لا يسألون الناس إلحافاً‏}‏ أنهم لا يسألونهم ألبتة، لا سؤال إلحاح، ولا سؤال غير إلحاح‏.‏ وبه قال الطبري، والزجاج، وإليه ذهب جمهور المفسرين، ووجهه أن التعَفُّفَّ صفةٌ ثابتة لهم لا تفارقهم، ومجرد السؤال ينافيها‏.‏ وقيل‏:‏ المراد أنهم إذا سألوا سألوا بتلطف، ولا يلحفون في سؤالهم، وهذا، وإن كان هو الظاهر من توجه النفي إلى القيد دون المقيد، لكن صفة التعفف تنافيه، وأيضاً كون الجاهل بهم يحسبهم أغنياء لا يكون إلا مع عدم السؤال ألبتة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بالليل والنهار‏}‏ يفيد زيادة رغبتهم في الإنفاق، وشدّة حرصهم عليه حتى أنهم لا يتركون ذلك ليلاً، ولا نهاراً، ويفعلونه سرّاً وجهراً عند أن تنزل بهم حاجة المحتاجين، ويظهر لديهم فاقة المفتاقين في جميع الأزمنة على جميع الأحوال‏.‏

ودخول الفاء في خبر الموصول أعني قوله‏:‏ ‏{‏فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ‏}‏ للدلالة على سببية ما قبلها لما بعدها، وقيل‏:‏ هي للعطف، والخبر للموصول محذوف، أي‏:‏ ومنهم الذين ينفقون‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد، والنسائي، والبزار، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، والضياء في المختارة، عن ابن عباس، قال‏:‏ كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين، فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ‏}‏ فرخص لهم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، والضياء عنه قال إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن لا نتصدّق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية، فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن سعيد بن جبير، نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، عن ابن الحنفية، نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس قال‏:‏ كان أناس من الأنصار لهم نسب، وقرابة من قريظة، والنضير، وكان يتقون أن لا يتصدّقوا عليهم، ويريدونهم أن يسلموا، فنزلت‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن عمرو الهلالي قال‏:‏ سئل النبي صلى الله عليه وسلم أنتصدّق على فقراء أهل الكتاب‏؟‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن عطاء الخراساني قال في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ الله‏}‏ قال‏:‏ إذا أعطيت لوجه الله، فلا عليك ما كان عمله‏.‏

وأخرج ابن المنذر من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏لِلْفُقَرَاء الذين أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ الله‏}‏ قال‏:‏ هم أصحاب الصفة‏.‏ وأخرج ابن سعد، عن محمد بن كعب القرظي، نحوه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال‏:‏ هم مهاجرو قريش بالمدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم أمروا بالصدقة عليهم‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن الربيع في قوله‏:‏ ‏{‏الذين أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ الله‏}‏ قال‏:‏ حصروا أنفسهم في سبيل الله للغزو فلا يستطيعون تجارة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير قال‏:‏ هم قوم أصابتهم، الجراحات في سبيل الله، فصاروا زمني، فجعل لهم في أموال المسلمين حقاً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن رجاء بن حيوة في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الارض‏}‏ قال‏:‏ لا يستطيعون تجارة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السديّ، نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَاء‏}‏ قال‏:‏ دلّ الله المؤمنين عليهم، وجعل نفقاتهم لهم، وأمرهم أن يضعوا نفقاتهم فيهم، ورضي عنهم‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏تَعْرِفُهُم بسيماهم‏}‏ قال‏:‏ التخشع‏.‏ وأخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الربيع أن معناه تعرف في وجوههم الجهد من الحاجة‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن زيد‏:‏ ‏{‏تَعْرِفُهُم بسيماهم‏}‏ قال‏:‏ رثاثة ثيابهم، وثبت في الصحيحين، وغيرهما من حديث أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ليس المسكين الذي تردّه التمرة، والتمرتان، واللقمة، واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف، واقرءوا إن شئتم‏:‏ ‏{‏لا يسألون الناس إلحافاً‏}‏» وقد ورد في تحريم المسئلة أحاديث كثيرة إلا لذي سلطان، أو في الأمر لا يجد منه بدّاً‏.‏

وأخرج ابن سعد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عديّ، والطبراني، وأبو الشيخ، عن يزيد بن عبد الله بن عَرِيب المليكي، عن أبيه، عن جدّه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أنزلت هذه الآية ‏{‏الذين يُنفِقُونَ أموالهم باليل والنهار‏}‏ في أصحاب الخيل» وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عساكر، عن أبي أمامة الباهلي نحوه قال‏:‏ فيمن لا يربطها خيلاء، ولا رياء، ولا سمعة‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن أبي الدرداء نحوه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن حنش الصنعاني أنه سمع ابن عباس يقول في هذه الآية‏:‏ هم الذين يعلفون الخيل في سبيل الله‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن عساكر من طريق عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه عن ابن عباس في هذه الآية؛ قال‏:‏ نزلت في عليّ بن أبي طالب كانت له أربعة دراهم، فأنفق بالليل درهماً، وبالنهار درهماً، ودرهماً سرّاً، ودرهماً علانية‏.‏ وعبد الوهاب ضعيف، ولكن قد رواه ابن مردويه من وجه آخر، عن ابن عباس‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة في هذه الآية قال‏:‏ هؤلاء قوم أنفقوا في سبيل الله الذي افترض عليهم في غير سَرَفٍ، ولا إِمْلاقٍ، ولا تبذير، ولا فساد‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ نزلت في عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان في نفقتهم في جيش العسرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏275- 277‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏275‏)‏ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ‏(‏276‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏277‏)‏‏}‏

الربا في اللغة‏:‏ الزيادة مطلقاً، يقال‏:‏ ربا الشيء يربو‏:‏ إذا زاد، وفي الشرع يطلق على شيئين، على ربا الفضل، وربا النسيئة حسبما هو مفصل في كتب الفروع، وغالب ما كانت تفعله الجاهلية أنه إذا حلَّ أجل الدين قال من هو له لمن هو عليه‏:‏ أتقضي أم تربي‏؟‏ فإذا لم يقض زاد مقداراً في المال الذي عليه، وأخر له الأجل إلى حين‏.‏ وهذا حرام بالاتفاق، وقياس كتابة الربا بالياء للكسرة في أوّله‏.‏ وقد كتبوه في المصحف بالواو‏.‏ قال في الكشاف‏:‏ على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة، والزكاة، وزيدت الألف بعدها تشبيهاً بواو الجمع‏.‏ انتهى‏.‏

قلت‏:‏ وهذا مجرد اصطلاح لا يلزم المشي عليه، فإن هذه النقوش الكتابية أمور اصطلاحية لا يشاحح في مثلها إلا فيما كان يدل به منها على الحرف الذي كان في أصل الكلمة، ونحوه، كما هو مقرر في مباحث الخط من علم الصرف، وعلى كل حال، فرسم الكلمة، وجعل نقشها الكتابي على ما يقتضيه اللفظ بها هو الأولى، فما كان في النطق ألفاً كالصلاة، والزكاة، ونحوهما كان الأولى في رسمه أن يكون كذلك، وكون أصل هذا الألف واواً، أو ياء لا يخفى على من يعرف علم الصرف، وهذه النقوش ليست إلا لفهم اللفظ الذي يدل بها عليه كيف هو‏:‏ في نطق من ينطق به لا لتفهيم أن أصل الكلمة كذا مما لا يجري به النطق، فاعرف هذا، ولا تشتغل بما يعتبره كثير من أهل العلم في هذه النقوش، ويلزمون به أنفسهم، ويعيبون من خالفه، فإن ذلك من المشاححة في الأمور الاصطلاحية التي لا تلزم أحداً أن يتقيد بها، فعليك بأن ترسم هذه النقوش على ما يلفظ به اللافظ عند قراءتها، فإنه الأمر المطلوب من وضعها، والتواضع عليها، وليس الأمر المطلوب منها أن تكون دالة على ما هو أصل الكلمة التي يتلفظ بها المتلفظ مما لا يجري في لفظه الآن، فلا تغترّ بما يروى عن سيبويه، ونحاة البصرة أن يكتب الربا بالواو؛ لأنه يقول في تثنيته ربوان‏.‏ وقال الكوفيون‏:‏ يكتب بالياء، وتثنيته ربيان‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ما رأيت خطأ أقبح من هذا، ولا أشنع، لا يكفيهم الخطأ في الخط حتى يخطئوا في التثنية، وهم يقرءون‏:‏ ‏{‏وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن رِباً لّيَرْبُوَاْ فِى أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُواْ عند الله‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 39‏]‏ وليس المراد بقوله هنا‏:‏ ‏{‏الذين يَأْكُلُونَ الربا‏}‏ اختصاص هذا الوعيد بمن يأكله، بل هو عام لكل من يعامل بالربا، فيأخذه، ويعطيه، وإنما خص الآكل؛ لزيادة التشنيع على فاعله، ولكونه هو الغرض الأهمّ، فإن آخذ الربا إنما أخذه للأكل‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَقُومُونَ‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة، كما يدل عليه قراءة ابن مسعود‏:‏ ‏{‏لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذى يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس يَوْمُ القيامة‏.‏

أخرجه عبد ابن حميد، وابن أبي حاتم، وبهذا، فسره جمهور المفسرين قالوا‏:‏ إنه يبعث كالمجنون عقوبة له، وتمقيتاً عند أهل المحشر‏.‏ وقيل‏:‏ إن المراد تشبيه من يحرص في تجارته، فيجمع ماله من الربا بقيام المجنون؛ لأن الحرص، والطمع، والرغبة في الجمع قد استفزته حتى صار شبيهاً في حركته بالمجنون، كما يقال لمن يسرع في مشيه، ويضطرب في حركاته‏:‏ أنه قد جُنَّ، ومنه قول الأعشى في ناقته‏:‏

وَتُصْبِحُ عَنْ غِبِّ السُّرَي وَكأَنَّها *** ألَمَّ بِهَا مِنْ طَائِفِ الجِنِّ أوْلَقُ

فجعلها بسرعة مشيها، ونشاطها كالمجنون‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذى يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس‏}‏ أي‏:‏ إلا قياماً كقيام الذي يتخبطه، والخبط‏:‏ الضرب بغير استواء كخبط العشواء، وهو المصروع‏.‏ والمسّ‏:‏ الجنون، والأمس‏:‏ المجنون، وكذلك الأولق، وهو‏:‏ متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏يَقُومُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يقومون من المسّ الذي بهم ‏{‏إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذى يَتَخَبَّطُهُ الشيطان‏}‏ أو متعلق ب ‏{‏يقوم‏}‏‏.‏ وفي الآية دليل على فساد قول من قال‏:‏ إن الصرع لا يكون من جهة الجنّ، وزعم أنه من فعل الطبائع، وقال‏:‏ إن الآية خارجة على ما كانت العرب تزعمه من أن الشيطان يصرع الإنسان، وليس بصحيح، وإن الشيطان لا يسلك في الإنسان، ولا يكون منه مسّ‏.‏ وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من أن يتخبطه الشيطان؛ كما أخرجه النسائي، وغيره‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ما ذكر من حالهم، وعقوبتهم بسبب قولهم‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا‏}‏ أي‏:‏ أنهم جعلوا البيع، والربا شيئاً واحداً، وإنما شبهوا البيع بالربا مبالغة بجعلهم الربا أصلاً، والبيع فرعاً، أي‏:‏ إنما البيع بلا زيادة عند حلول الأجل، كالبيع بزيادة عند حلوله، فإن العرب كانت لا تعرف رباً إلا ذلك، فردّ الله سبحانه عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا‏}‏ أي‏:‏ أن الله أحلّ البيع، وحرّم نوعاً من أنواعه، وهو البيع المشتمل على الربا‏.‏ والبيع مصدر باع يبيع، أي‏:‏ دفع عوضاً، وأخذ معوّضاً، والجملة بيانية لا محل لها من الإعراب‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ‏}‏ أي‏:‏ من بلغته موعظة من الله من المواعظ التي اشتمل عليها الأوامر، والنواهي، ومنها ما وقع هنا من النهي عن الربا ‏{‏فانتهى‏}‏ أي‏:‏ فامتثل النهي الذي جاءه، وانزجر عن المنهي عنه، وهو معطوف، أي‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏فانتهى‏}‏ على قوله‏:‏ ‏{‏جَاءهُ‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مّن رَّبّهِ‏}‏ متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏جَاءهُ‏}‏ أو بمحذوف وقع صفة لموعظة، أي‏:‏ كائنة ‏{‏مّن رَّبّهِ فَلَهُ مَا سَلَفَ‏}‏ أي‏:‏ ما تقدّم منه من الربا لا يؤاخذ به؛ لأنه فعله قبل أن يبلغه تحريم الربا، أو قبل أن تنزل آية تحريم الربا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَمْرُهُ إِلَى الله‏}‏ قيل‏:‏ الضمير عائد إلى الربا، أي‏:‏ وأمر الربا إلى الله في تحريمه على عباده، واستمرار ذلك التحريم، وقيل‏:‏ الضمير عائد إلى ما سلف، أي‏:‏ أمره إلى الله في العفو عنه، وإسقاط التبعة فيه، وقيل‏:‏ الضمير يرجع إلى المربي، أي‏:‏ أمر من عامل بالربا إلى الله في تثبيته على الإنتهاء، أو الرجوع إلى المعصية ‏{‏وَمَنْ عَادَ‏}‏ إلى أكل الربا، والمعاملة به ‏{‏فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ والإشارة إلى ‏{‏من عاد‏}‏ وجمع أصحاب باعتبار معنى «من»، وقيل‏:‏ إن معنى ‏{‏من عاد‏}‏‏:‏ هو أن يعود إلى القول‏:‏ ب ‏{‏إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا‏}‏ وأنه يكفر بذلك، فيستحق الخلود، وعلى التقدير الأوّل يكون الخلود مستعاراً على معنى المبالغة، كما تقول العرب‏:‏ ملك خالد، أي‏:‏ طويل البقاء، والمصير إلى هذا التأويل واجب للأحاديث المتواترة القاضية بخروج الموحدين من النار‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏يَمْحَقُ الله الربا‏}‏ أي‏:‏ يذهب بركته في الدنيا، وإن كان كثيراً، فلا يبقى بيد صاحبه‏.‏ وقيل‏:‏ يمحق بركته في الآخرة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَيُرْبِى الصدقات‏}‏ أي‏:‏ يزيد في المال الذي أخرجت صدقته، وقيل‏:‏ يبارك في ثواب الصدقة، ويضاعفه، ويزيد في أجر المتصدّق، ولا مانع من حمل ذلك على الأمرين جميعاً‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ لا يرضى؛ لأن الحبّ مختص بالتوّابين، وفيه تشديد، وتغليظ عظيم على من أربى حيث حكم عليه بالكفر، ووصفه بأثيم للمبالغة، وقيل‏:‏ لإزالة الاشتراك، إذ قد يقع على الزراع، ويحتمل أن المراد بقوله‏:‏ ‏{‏كُلَّ كَفَّارٍ‏}‏ من صدرت منه خصلة توجب الكفر، ووجه التصاقه بالمقام أن الذين قالوا‏:‏ إنما البيع مثل الربا كفار‏.‏ وقد تقدم تفسير قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏

وقد أخرج أبو يعلى من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذى يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس‏}‏ قال‏:‏ يعرفون يوم القيامة بذلك لا يستطيعون القيام، إلا كما يقوم المتخبط المنخنق‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا‏}‏ وكذبوا على الله‏:‏ ‏{‏وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا‏}‏ ومن عاد فأكل الربا‏:‏ ‏{‏فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه في الآية قال‏:‏ آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً يخنق‏.‏ وأخرج عبد ابن حميد، وابن جرير، وابن المنذر من وجه آخر عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَقُومُونَ‏}‏ قال‏:‏ ذلك حين يبعث من قبره‏.‏ وأخرج الأصبهاني في ترغيبه، عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يأتي آكل الربا يوم القيامة مختبلاً يجر شفتيه»

ثم قرأ‏:‏ ‏{‏لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذى يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس‏}‏، وقد وردت أحاديث كثيرة في تعظيم ذنب الربا، منها من حديث عبد الله بن مسعود، عند الحاكم وصححه، والبيهقي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ الربا ثلاثة وسبعون باباً، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم ‏"‏ ومن حديث أبي هريرة مرفوعاً، عند ابن ماجه، والبيهقي بلفظ‏:‏ ‏"‏ سبعون باباً ‏"‏ وورد هذا المعنى مع اختلاف العدد عن عبد الله بن سَلاَم، وكعب، وابن عباس، وأنس‏.‏

وأخرج ابن جرير، عن الربيع في الآية قال‏:‏ يبعثون يوم القيامة، وبهم خَبَل من الشيطان، وهي في بعض القراءات‏:‏ «لا يقومون يوم القيامة»‏.‏ يعني قراءة ابن مسعود المتقدم ذكرها‏.‏ وفي الصحيحين، وغيرهما من حديث عائشة قالت‏:‏ لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، فقرأهنّ على الناس، ثم حرّم التجارة في الخمر» وأخرج ابن جرير، وابن مردويه، عن عمر بن الخطاب‏:‏ أنه خطب، فقال‏:‏ إن من آخر القرآن نزولاً آية الربا، وإنه قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبينه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم‏.‏ وأخرج البخاري، وغيره، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ آخر آية أنزلها الله على رسوله آية الربا‏.‏ وأخرج البيهقي في الدلائل، عن عمر مثله‏.‏

وأخرج ابن جرير، عن مجاهد في الربا الذي نهى الله، عنه قال‏:‏ كان أهل الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين، فيقول‏:‏ لك كذا وكذا، وتؤخر عني، فيؤخر عنه‏.‏ وأخرج أيضاً، عن قتادة نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، نحوه أيضاً، وزاد في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ‏}‏ قال‏:‏ يعني البيان الذي في القرآن في تحريم الربا، فانتهى عنه‏:‏ ‏{‏فَلَهُ مَا سَلَفَ‏}‏ يعني‏:‏ فله ما كان أكل من الربا قبل التحريم‏:‏ ‏{‏وَأَمْرُهُ إِلَى الله‏}‏ يعني بعد التحريم، وبعد تركه إن شاء عصمه منه، وإن شاء لم يفعل ‏{‏وَمَنْ عَادَ‏}‏ يعني في الربا بعد التحريم، فاستحله بقولهم‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا‏}‏ ‏{‏فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ يعني لا يموتون‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، من طريق ابن جريج، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏يَمْحَقُ الله الربا‏}‏ قال‏:‏ ينقص الربا ‏{‏وَيُرْبِى الصدقات‏}‏ قال‏:‏ يزيد فيها، وقد ثبت في الصحيحين، وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعاً ‏"‏ من تصدق بعْدل تمرة من كسبٍ طيبٍ، ولا يقبل الله إلا طيباً، فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يُرْبَيها لصاحبها، كما يربي أحدكم فلوّه حتى تكون مثل الجبل ‏"‏ وأخرج البزار، وابن جرير، وابن حبان، والطبراني من حديث عائشة نحوه‏.‏ وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، عن ابن عمر مرفوعاً نحوه أيضاً‏.‏ وفي حديث عائشة، وابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بعد أن ساق الحديث‏:‏ ‏{‏يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِى الصدقات‏}‏‏.‏ وأخرج الطبراني عن أبي برزة الأسلمي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن العبد ليتصدّق بالِكْسَرة تربو عند الله حتى تكون مثل أحد ‏"‏ وهذه الأحاديث تبين معنى الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏278- 281‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏278‏)‏ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ‏(‏279‏)‏ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏280‏)‏ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏281‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏اتقوا الله‏}‏ أي‏:‏ قوا أنفسكم من عقابه، واتركوا البقايا التي بقيت لكم من الربا، وظاهره أنه أبطل من الربا ما لم يكن مقبوضاً‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ قيل‏:‏ هو شرط مجازي على جهة المبالغة، وقيل‏:‏ إنَّ «إنّ» في هذه الآية بمعنى ‏"‏ إذ ‏"‏‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهو مردود لا يعرف في اللغة، والظاهر أن المعنى‏:‏ إن كنتم مؤمنين على الحقيقة، فإن ذلك يستلزم امتثال أوامر الله ونواهيه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ‏}‏ يعني ما أمرتم به من الاتقاء، وترك ما بقي من الربا ‏{‏فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ الله وَرَسُولِهِ‏}‏ أي‏:‏ فاعلموا بها، من أذن بالشيء إذا علم به، قيل‏:‏ هو من الإذن بالشيء، وهو الاستماع، لأنه من طرق العلم‏.‏ وقرأ أبو بكر عن عاصم، وحمزة‏:‏ ‏{‏فأذنوا‏}‏ على معنى فأعلموا غيركم أنكم على حربهم، وقد دلت هذه على أن أكل الربا، والعمل به من الكبائر، ولا خلاف في ذلك، وتنكير الحرب للتعظيم، وزادها تعظيماً نسبتها إلى اسم الله الأعظم، وإلى رسوله الذي هو‏:‏ أشرف خليقته‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَإِن تُبْتُمْ‏}‏ أي من الربا ‏{‏فَلَكُمْ رُءوسُ أموالكم‏}‏ تأخذونها ‏{‏لاَ تَظِلَمُونَ‏}‏ غرماءكم بأخذ الزيادة ‏{‏وَلاَ تُظْلَمُونَ‏}‏ أنتم من قبلهم بالمطل، والنقص، والجملة حالية، أو استئنافية‏.‏ وفي هذا دليل على أن أموالهم مع عدم التوبة حلال لمن أخذها من الأئمة، ونحوهم ممن ينوب عنهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ‏}‏ لما حَكَم سبحانه لأهل الربا برءوس أموالهم عند الواجدين للمال حكم في ذوي العسرة بالنظرة إلى يسار، والعسرة‏:‏ ضيق الحال من جهة عدم المال، ومنه جيش العسرة‏.‏ والنظرة‏:‏ التأخير، والميسرة مصدر بمعنى اليسر، وارتفع ‏{‏ذو‏}‏ بكان التامة التي بمعنى وجد، وهذا قول سيبويه، وأبي عليّ الفارسي، وغيرهما‏.‏ وأنشد سيبويه‏:‏

فِدىً لبني ذُهْلِ بن شَيْبَان يا فتى *** إذا كان يومٌ ذو كواكب أَشْهَبُ

وفي مصحف أبيّ‏:‏ «وإن كان ذا عسرة» على معنى‏:‏ وإن كان المطلوب ذا عسرة‏.‏ وقرأ الأعمش‏:‏ «وإن كان معسراً»‏.‏ قال أبو عمرو الداني، عن أحمد بن موسى، وكذلك في مصحف أبيّ بن كعب‏.‏ وروى المعتمر، عن حجاج الوراق، قال في مصحف عثمان‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَ ذَاعُسْرَةٍ‏}‏ قال النحاس، ومكي، والنقاش‏:‏ وعلى هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا، وعلى من قرأ‏:‏ «ذو» فهي عامة في جميع مَنْ عليه دين، وإليه ذهب الجمهور‏.‏ وقرأ الجماعة‏:‏ ‏{‏فَنَظِرَةٌ‏}‏ بكسر الظاء‏.‏ وقرأ مجاهد، وأبو رجاء، والحسن بسكونها، وهي لغة تميم‏.‏ وقرأ نافع، وحده‏:‏ ‏{‏مَيْسَرَةٍ‏}‏ بضم السين، والجمهور بفتحها، وهي اليسار‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَأَن تَصَدَّقُواْ‏}‏ بحذف إحدى التاءين، وقريء بتشديد الصاد، أي‏:‏ وأن تصدقوا على معسري غرمائكم بالإبراء خير لكم، وفيه الترغيب لهم بأن يتصدقوا برءوس أموالهم على من أعسر، وجعل ذلك خيراً من إنظاره، قاله السدي، وابن زيد، والضحاك‏.‏

قال الطبري‏:‏ وقال آخرون‏:‏ معنى الآية‏:‏ وأن تصدقوا على الغنيّ، والفقير خير لكم‏.‏ والصحيح الأوّل، وليس في الآية مدخل للغنيّ‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ جوابه محذوف، أي‏:‏ إن كنتم تعلمون أنه خير لكم عملتم به‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏واتقوا يَوْمًا‏}‏ هو يوم القيامة، وتنكيره للتهويل، وهو منصوب على أنه مفعول به لا ظرف‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله‏}‏ وصف له‏.‏ وقرأ أبو عمر، وبفتح التاء، وكسر الجيم، والباقون بضم التاء، وفتح الجيم، وذهب قوم إلى أن هذا اليوم المذكور هو يوم الموت‏.‏ وذهب الجمهور إلى أنه يوم القيامة، كما تقدّم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِلَى الله‏}‏ فيه مضاف محذوف تقديره إلى حكم الله ‏{‏ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ‏}‏ من النفوس المكلفة ‏{‏مَّا كَسَبَتْ‏}‏ أي‏:‏ جزاء ما عملت من خير، أو شرّ، وجملة‏:‏ ‏{‏وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ حالية، وجمع الضمير؛ لأنه أنسب بحال الجزاء، كما أن الإفراد أنسب بحال الكسب، وهذ الآية فيها الموعظة الحسنة لجميع الناس‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن السدي في قوله‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الربا‏}‏ قال‏:‏ نزلت في العباس بن عبد المطلب، ورجل من بني المغيرة، كانا شريكين في الجاهلية يسلفان الربا إلى ناس من ثقيف، فجاء الإسلام، ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله هذه الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن جريج، قال‏:‏ كانت ثقيف قد صالحت النبي صلى الله عليه وسلم على أن ما لهم من ربا على الناس، وما كان للناس عليهم من ربا، فهو موضوع، فلما كان الفتح استعمل عتاب بن أسيد على مكة، وكانت بنو عمرو بن عوف يأخذون الربا من بني المغيرة، وكان بنو المغيرة يربون لهم في الجاهلية، فجاء الإسلام، ولهم عليهم مال كثير، فأتاهم بنو عمرو، يطلبون رباهم، فأبى بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام، ورفعوا ذلك إلى عتاب بن أسيد، فكتب عتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الربا‏}‏ فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتَّاب، وقال‏:‏ «إن رضوا، وإلا فأذنهم بحرب»‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ‏}‏ قال‏:‏ من كان مقيماً على الربا لا ينزع منه، فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع، وإلا ضرب عنقه‏.‏ وأخرجوا أيضاً عنه في قوله‏:‏ ‏{‏فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ‏}‏ قال‏:‏ استيقنوا بحرب، وأخرج أهل السنن، وغيرهم عن عمرو بن الأحوص، أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏

«ألا إنّ كل ربا في الجاهلية موضوع، لكم رءوس أموالكم لا تظلمون، ولا تظلمون، وأول ربا موضوع ربا العباس» وأخرج ابن منده، عن ابن عباس، قال‏:‏ نزلت هذه الآية في ربيعة بن عمرو، وأصحابه‏:‏ ‏{‏وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أموالكم‏}‏‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ‏}‏ قال‏:‏ نزلت في الربا‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، عن شريح، نحوه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن الضحاك في الآية، قال‏:‏ وكذلك كل ديْنٍ على مسلم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، نحوه‏.‏ وقد وردت أحاديث صحيحة في الصحيحين، وغيرهما في الترغيب لمن له دين على معسر أن ينظره‏.‏

وأخرج أبو عبيد، وعبد بن حميد، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي، عن ابن عباس قال‏:‏ آخر آية نزلت من القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏واتقوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله‏}‏ وأخرج ابن أبي شيبة، عن السدي، وعطية العُوفي مثله‏.‏ وأخرج ابن الأنباري، عن أبي صالح، وسعيد بن جبير، مثله أيضاً وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس أنها آخر آية نزلت، وكان بين نزولها، وبين موت النبي صلى الله عليه وسلم إحدى وثمانون يوماً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير‏:‏ أنه عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزولها تسع ليال، ثم مات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏282- 283‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏282‏)‏ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ‏(‏283‏)‏‏}‏

هذا شروع في بيان حال المداينة الواقعة بين الناس بعد بيان حال الربا، أي‏:‏ إذا داين بعضكم بعضاً، وعاملهُ بذلك، وذكر الدين بعد ذكر ما يغني عنه من المداينة لقصد التأكيد مثل قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏ وقيل‏:‏ إنه ذكر ليرجع إليه الضمير من قوله‏:‏ ‏{‏فاكتبوه‏}‏ ولو قال‏:‏ فاكتبوا الدين لم يكن فيه من الحسن ما في قوله‏:‏ ‏{‏إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ‏}‏، والدين عبارة، عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقداً، والآخر في الذمة نسيئة، فإن العين عند العرب ما كان حاضراً، والدين ما كان غائباً، قال الشاعر‏:‏

وَعَدتْنَا بِدْرِهَمْيِنا طِلاءً *** وسِواء معجلاً غَيرِ دَيْنِ

وقال الآخر‏:‏

إذا ما أوقدوا ناراً وحطبا *** فَذَاك الموتُ نَقْداً غَير دَيُن

وقد بين الله سبحانه هذا المعنى بقوله‏:‏ ‏{‏إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ وقد استدل به على أن الأجل المجهول لا يجوز، وخصوصاً أجل السلم‏.‏ وقد ثبت في الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم» وقد قال بذلك الجمهور، واشترطوا توقيته بالأيام، أو الأشهر، أو السنين، قالوا‏:‏ ولا يجوز إلى الحصاد، أو الدياس، أو رجوع القافلة، أو نحو ذلك، وجوَّزه مالك‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فاكتبوه‏}‏ أي‏:‏ الدين بأجله؛ لأنه أدفع للنزاع، وأقطع للخلاف‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ‏}‏ هو‏:‏ بيان لكيفية الكتابة المأمور بها، وظاهر الأمر الوجوب، وبه قال عطاء، والشعبي، وغيرهما، فأوجبوا على الكاتب أن يكتب إذا طلب منه ذلك، ولم يوجد كاتب سواه‏.‏ وقيل‏:‏ الأمر للندب‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بالعدل‏}‏ متعلق بمحذوف صفة لكاتب أي‏:‏ كاتب كائن بالعدل، أي‏:‏ يكتب بالسوية لا يزيد، ولا ينقص، ولا يميل إلى أحد الجانبين، وهو أمر للمتداينين باختيار كاتب متصف بهذه الصفة لا يكون في قلبه، ولا قلمه هوادة لأحدهما على الآخر، بل يتحرّى الحق بينهم، والمعدلة فيهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ‏}‏ النكرة في سياق النفي مشعرة بالعموم، أي‏:‏ لا يمتنع أحد من الكتاب أن يكتب كتاب التداين، كما علمه الله، أي‏:‏ على الطريقة التي علمه الله من الكتابة، أو كما علمه الله بقوله‏:‏ ‏{‏بالعدل‏}‏‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلْيُمْلِلِ الذى عَلَيْهِ الحق‏}‏ الإملال، والإملاء لغتان‏:‏ الأولى لغة أهل الحجاز، وبني أسد، والثانية لغة بني تميم، فهذه الآية جاءت على اللغة الأولى، وجاء على اللغة الثانية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَهِىَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 5‏]‏ ‏{‏والذى عَلَيْهِ الحق‏}‏ هو من عليه الدين، أمره الله تعالى بالإملاء، لأن الشهادة إنما تكون على إقراره بثبوت الدين في ذمته، وأمره الله بالتقوى فيما يمليه على الكاتب، بالغ في ذلك بالجمع بين الإسم، والوصف في قوله‏:‏ ‏{‏وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ‏}‏ ونهاه عن البخس، وهو النقص، وقيل‏:‏ إنه نهي للكاتب‏.‏

والأوّل أولى؛ لأن من عليه الحق هو الذي يتوقع منه النقص، ولو كان نهياً للكاتب لم يقتصر في نهيه على النقص؛ لأنه يتوقع منه الزيادة، كما يتوقع منه النقص‏.‏ والسفيه‏:‏ هو الذي لا رأي له في حسن التصرف، فلا يحسن الأخذ، ولا الإعطاء، شبه بالثوب السفيه، وهو الخفيف النسج، والعرب تطلق السفه على ضعف العقل تارة، وعلى ضعف البدن أخرى، فمن الأوّل قول الشاعر‏:‏

نَخَافُ أن تَسْفَه أَحْلامُنا *** ويجْهلُ الدهرُ مع الجاهلِ

ومن الثاني قول ذي الرمة‏:‏

مَشَيْن كما اهتزَّت رماحٌ تَسَفَّهَتْ *** أعالِيها مَرُّ الرياحِ النّواسِم

أي‏:‏ استضعفها، واستلانها بحركتها، وبالجملة فالسفيه هو المبذر إما لجهله بالصرف، أو لتلاعبه بالمال عبثاً مع كونه لا يجهل الصواب‏.‏ والضعيف هو‏:‏ الشيخ الكبير، أو الصبي‏.‏ قال أهل اللغة‏:‏ الضُعف بضم الضاد في البدن، وبفتحها في الرأي‏.‏ والذي لا يستطيع أن يُمِلَّ هو الأخرس، أو العَيِيُّ الذي لا يقدر على التعبير كما ينبغي، وقيل‏:‏ إن الضعيف هو المذهول العقل الناقص الفطنة العاجز عن الإملاء، والذي لا يستطيع أن يملّ هو‏:‏ الصغير‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل‏}‏ الضمير عائد إلى الذي عليه الحق فيملّ عن السفيه وليه المنصوب عنه بعد حجره، عن التصرف في ماله، ويملّ عن الصبي، ووصيه، أو وليه، وكذلك يملّ عن العاجز، الذي لا يستطيع الإملال لضعف وليه؛ لأنه في حكم الصبيّ، أو المنصوب عنه من الإمام، أو القاضي، ويملّ عن الذي لا يستطيع، وكيله إذا كان صحيح العقل، وعرضت له آفة في لسانه، أو لم تعرض، ولكنه جاهل لا يقدر على التعبير، كما ينبغي‏.‏ وقال الطبري‏:‏ إن الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏وَلِيُّهُ‏}‏ يعود إلى الحق، وهو ضعيف جداً‏.‏ قال القرطبي في تفسيره‏:‏ وتصرّف السفيه المحجور عليه دون وليه فاسد إجماعاً مفسوخ أبداً لا يوجب حكماً، ولا يؤثر شيئاً، فإن تصرف سفيه، ولا حجر عليه، ففيه خلاف‏.‏ انتهى‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ‏}‏ الاستشهاد‏:‏ طلب الشهادة، وسماهما شهيدين قبل الشهادة من مجاز الأول أي‏:‏ باعتبار ما يئول إليه أمرهما من الشهادة، و‏{‏مّن رّجَالِكُمْ‏}‏ متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏واستشهدوا‏}‏ أو بمحذوف هو‏:‏ صفة لشهيدين، أي‏:‏ كائنين من رجالكم، أي‏:‏ من المسلمين، فيخرج الكفار، ولا وجه لخروج العبيد من هذه الآية‏.‏ فهم إذا كانوا مسلمين من رجال المسلمين، وبه قال شريح، وعثمان البتي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور‏.‏ وقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وجمهور العلماء‏:‏ لا تجوز شهادة العبد لما يلحقه من نقص الرق‏.‏ وقال الشعبي، والنخعي‏:‏ يصح في الشيء اليسير دون الكثير‏.‏ واستدل الجمهور على عدم جواز شهادة العبد بأن الخطاب في هذه الآية مع الذين يتعاملون بالمداينة، والعبيد لا يملكون شيئاً تجري فيه المعاملة‏.‏

ويجاب عن هذا بأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأيضاً العبد تصح منه المداينة، وسائر المعاملات إذا أذن له مالكه بذلك‏.‏ وقد اختلف الناس هل الإشهاد واجب، أو مندوب، فقال أبو موسى الأشعري، وابن عمر، والضحاك، وعطاء، وسعيد بن المسيب، وجابر بن زيد، ومجاهد، وداود بن علي الظاهري، وابنه‏:‏ إنه واجب، ورجحه ابن جرير الطبري، وذهب الشعبي، والحسن، ومالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأصحابه إلى أنه مندوب، وهذا الخلاف بين هؤلاء هو في وجوب الإشهاد على البيع‏.‏ واستدل الموجبون بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ‏}‏ ولا فرق بين هذا الأمر، وبين قوله‏:‏ ‏{‏واستشهدوا‏}‏ فيلزم القائلين بوجوب الإشهاد في البيع أن يقولوا بوجوبه في المداينة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَإِن لَّمْ يَكُونَا‏}‏ أي‏:‏ الشهيدان ‏{‏رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان‏}‏ أي‏:‏ فليشهد رجل، وامرأتان، أو فرجل، وامرأتان يكفون‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ممن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء‏}‏ متعلق بمحذوف وقع صفة لرجل، وامرأتان، أي‏:‏ كائنون ممن ترضون حال كونهم من الشهداء‏.‏ والمراد ممن ترضون دينهم، وعدالتهم، وفيه أن المرأتين في الشهادة برجل، وأنها لا تجوز شهادة النساء إلا مع الرجل لا وحدهنّ، إلا فيما لا يطلع عليه غيرهنّ للضرورة‏.‏ واختلفوا هل يجوز الحكم بشهادة امرأتين مع يمين المدّعي كما جاز الحكم برجل مع يمين المدّعي‏؟‏ فذهب مالك، والشافعي إلى أنه يجوز ذلك، لأن الله سبحانه قد جعل المرأتين كالرجل في هذه الآية‏.‏ وذهب أبو حنيفة، وأصحابه إلى أنه لا يجوز ذلك، وهذا يرجع إلى الخلاف في الحكم بشاهد مع يمين المدّعي، والحق أنه جائز لورود الدليل عليه، وهو زيادة لم تخالف ما في الكتاب العزيز، فيتعين قبولها‏.‏ وقد أوضحنا ذلك في شرحنا للمنتقي، وغيره من مؤلفاتنا، ومعلوم عند كل من يفهم أنه ليس في هذه الآية ما يردّ به قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاهد، واليمين، ولم يدفعوا هذا إلا بقاعدة مبنية على شفا جرف هارٍ هي قولهم‏:‏ إن الزيادة على النص نسخ، وهذه دعوى باطلة، بل الزيادة على النص شريعة ثابتة جاءنا بها من جاءنا بالنص المتقدم عليها، وأيضاً كان يلزمهم أن لا يحكموا بنكول المطلوب، ولا بيمين الرد على الطالب‏.‏ وقد حكموا بهما، والجواب الجواب‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى‏}‏ قال أبو عبيد‏:‏ معنى تضلّ تنسى، والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها، وذكر جزء‏.‏ وقرأ حمزة‏:‏ «إن تضلّ» بكسر الهمزة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَتُذَكّرَ‏}‏ جوابه على هذه القراءة، وعلى قراءة الجمهور هو منصوب بالعطف على تضلّ، ومن رفعه فعلى الاستئناف‏.‏ وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو‏:‏ «فتذكر» بتخفيف الذال، والكاف، ومعناه‏:‏ تزيدها ذكراً‏.‏

وقراءة الجماعة بالتشديد، أي‏:‏ تنبهها إذا غفلت، ونسيت، وهذه الآية تعليل لاعتبار العدد في النساء، أي‏:‏ فليشهد رجل، وتشهد امرأتان عوضاً، عن الرجل الآخر؛ لأجل تذكير إحداهما للأخرى إذا ضلت، وعلى هذا، فيكون في الكلام حذف، وهو سؤال سائل عن وجه اعتبار امرأتين عوضاً عن الرجل الواحد، فقيل وجهه أن تضلّ إحداهما، فتذكر إحداهما الأخرى، والعلة في الحقيقة هي‏:‏ التذكير، ولكن الضلال لما كان سبباً له نزل منزلته، وأبهم الفاعل في تضلّ، وتذكر، لأن كلا منهما يجوز عليه الوصفان؛ فالمعنى‏:‏ إن ضلت هذه ذكرتها هذه، وإن ضلت هذه ذكرتها هذه لا على التعيين، أي‏:‏ إن ضلت إحدى المرأتين ذكرتها المرأة الأخرى، وإنما اعتبر فيهما هذا التذكير لما يلحقهما من ضعف النساء بخلاف الرجال‏.‏ وقد يكون الوجه في الإبهام أن ذلك يعني الضلال، والتذكير يقع بينهما متناوباً حتى ربما ضلت هذه عن وجه وضلت تلك عن وجه آخر، فذكرت كل واحدة منهما صاحبتها‏.‏ وقال سفيان بن عيينة‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏{‏فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى‏}‏ تصيرها ذكراً، يعني‏:‏ أن مجموع شهادة المرأتين مثل شهادة الرجل الواحد‏.‏ وروى نحوه عن أبي عمرو بن العلاء، ولا شك أن هذا باطل لا يدل عليه شرع، ولا لغة، ولا عقل‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْبَ الشهداء إِذَا مَا دُعُواْ‏}‏ أي‏:‏ لأداء الشهادة التي قد تحملوها من قبل، وقيل‏:‏ إذا ما دعوا لتحمل الشهادة، وتسميتهم شهداء مجاز كما تقدم، وحملها الحسن على المعنيين‏.‏ وظاهر هذا النهي أن الامتناع من أداء الشهادة حرام‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏ولا تسأموا أن تكتبوه‏}‏ معنى تسأموا‏:‏ تملوا‏.‏ قال الأخفش‏:‏ يقال سئمت أسأم سآمة، وسآما، ومنه قول الشاعر‏:‏

سَئِمْتُ تَكَالِيفَ الحياةِ وَمَنْ يَعِشْ *** ثَمانِين حَوْلاً لاَ أبا لك يَسأَمِ

أي‏:‏ لا تملوا أن تكتبوه، أي‏:‏ الدين الذي تداينتم به، وقيل‏:‏ الحق، وقيل‏:‏ الشاهد، وقيل‏:‏ الكتاب، نهاهم الله سبحانه عن ذلك؛ لأنهم ربما ملُّوا من كثرة المداينة أن يكتبوا، ثم بالغ في ذلك، فقال‏:‏ ‏{‏صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا‏}‏ أي‏:‏ حال كون ذلك المكتوب صغيراً، أو كبيراً أي‏:‏ لا تملوا في حال من الأحوال سواء كان الدين كثيراً، أو قليلاً‏.‏ وقيل‏:‏ إنه كنى بالسآمة عن الكسل‏.‏ والأول أولى‏.‏ وقدّم الصغير هنا على الكبير للاهتمام به لدفع ما عساه أن يقال إن هذا مال صغير، أي‏:‏ قليل لا احتياج إلى كتبه، والإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ إلى المكتوب المذكور في ضمير قوله‏:‏ ‏{‏أَن تَكْتُبُوهُ‏}‏ و‏{‏أقسط‏}‏ معناه أعدل، أي‏:‏ أصح، وأحفظ ‏{‏وَأَقْوَمُ للشهادة‏}‏ أي‏:‏ أعون على إقامة الشهادة، وأثبت لها، وهو مبني من أقام، وكذلك أقسط مبني من فعله، أي‏:‏ أقسط‏.‏ وقد صرح سيبويه بأنه قياسي، أي‏:‏ بني أفعل التفضيل‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏وَأَدْنَى أَن لا تَرْتَابُواْ‏}‏ أقرب لنفي الريب في معاملاتكم، أي‏:‏ الشك، ذلك أن الكتاب الذي يكتبونه يدفع ما يعرض لهم من الريب كائناً ما كان‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِلا أَن تَكُونَ تجارة حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ‏}‏ ‏"‏ أن ‏"‏ في موضع نصب على الإستثناء قاله الأخفش، و‏"‏ كان ‏"‏ تامة، أي‏:‏ إلا أن تقع، أو توجد تجارة، والإستثناء منقطع، أي‏:‏ لكن وقت تبايعكم، وتجارتكم حاضرة بحضور البدلين ‏{‏تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ‏}‏ تتعاطونها يداً بيد، فالإدارة‏:‏ التعاطي، والتقابض، فالمراد التبايع الناجز يداً بيد، فلا حرج عليكم إن تركتم كتابته‏.‏ وقرئ بنصب تجارة على أن ‏"‏ كان ‏"‏ ناقصة، أي‏:‏ إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ‏}‏ قيل‏:‏ معناه‏:‏ وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع المذكور هنا، وهو التجارة الحاضرة على أن الإشهاد فيها يكفي‏.‏ وقيل‏:‏ معناه‏:‏ إذا تبايعتم أيّ تبايع كان حاضراً أو كالِئاً، لأن ذلك أدفع لمادة الخلاف وأقطع لمنشأ الشجار‏.‏ وقد تقدّم قريباً ذكر الخلاف في كون هذا الإشهاد واجباً، أو مندوباً‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ‏}‏ يحتمل أن يكون مبنياً للفاعل، أو للمفعول، فعلى الأوّل معناه‏:‏ لا يضار كاتب، ولا شهيد من طلب ذلك منهما، إما بعدم الإجابة، أو بالتحريف، والتبديل، والزيادة، والنقصان في كتابته، ويدل على هذا قراءة عمر بن الخطاب، وابن عباس، وابن أبي إسحاق‏:‏ «ولا يضارر» بكسر الراء الأولى، وعلى الثاني لا يضارَر كاتب، ولا شهيد بأن يدعيا إلى ذلك، وهما مشغولان بمهمّ لهما، ويضيق عليهما في الإجابة، ويؤذيا إن حصل منهما التراخي، أو يطلب منهما الحضور من مكان بعيد، ويدل على ذلك قراءة ابن مسعود‏:‏ «ولا يضارر» بفتح الراء الأولى، وصيغة المفاعلة تدل على اعتبار الأمرين جميعاً‏.‏ وقد تقدّم في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تُضَارَّ والدة بِوَلَدِهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏ ما إذا راجعته زادك بصيرة إن شاء الله‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تَفْعَلُواْ‏}‏ أي‏:‏ ما نهيتم عنه من المضارة ‏{‏فَإِنَّهُ‏}‏ أي‏:‏ فعلكم هذا ‏{‏فُسُوقٌ بِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ خروج عن الطاعة إلى المعصية ملتبس بكم ‏{‏واتقوا الله‏}‏ في فعل ما أمركم به، وترك ما نهاكم عنه ‏{‏وَيُعَلّمُكُمُ الله‏}‏ ما تحتاجون إليه من العلم، وفيه الوعد لمن اتقاه أن يعلمه، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إَن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 29‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ‏}‏ لما ذكر سبحانه مشروعية الكتابة، والإشهاد لحفظ الأموال، ودفع الريب، عقب ذلك بذكر حالة العذر، عن وجود الكاتب، ونص على حالة السفر، فإنها من جملة أحوال العذر، ويلحق بذلك كل عذر يقوم مقام السفر، وجعل الرهان المقبوضة قائمة مقام الكتابة، أي‏:‏ فإن كنتم مسافرين ‏{‏وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا‏}‏ في سفركم ‏{‏فرهان مَّقْبُوضَةٌ‏}‏ قال أهل العلم‏:‏ الرهن في السفر ثابت بنص التنزيل، وفي الحضر بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ثبت في الصحيحين‏:‏ «أنه رهن درعاً له من يهودي»‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ «كاتباً» أي‏:‏ رجلاً يكتب لكم‏.‏ وقرأ ابن عباس، وأبيّ ومجاهد، والضحاك، وعكرمة، وأبو العالية‏:‏ «كتاباً» قال ابن الأنباري‏:‏ فسره مجاهد فقال‏:‏ معناه فإن لم تجدوا مداداً‏:‏ يعني في الأسفار‏.‏ وقرأ أبو عمرو وابن كثير «فرُهُنٌ» بضم الراء والهاء‏.‏ وروي عنهما تخفيف الهاء جمع رهان، قاله الفراء، والزجاج، وابن جرير الطبري‏.‏ وقرأ عاصم بن أبي النجود‏:‏ «فرَهْن» بفتح الراء، وإسكان الهاء‏.‏ وقراءة الجمهور‏:‏ «رهان»‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يقال في الرهن رهنت، وأرهنت، وكذا قال ابن الأعرابي، والأخفش‏.‏ وقال أبو علي الفارسي‏:‏ يقال أرهنت في المعاملات، وأما في القرض، والبيع‏:‏ فرهنت، وقال ثعلب‏:‏ الرواة كلهم في قول الشاعر‏:‏

فَلَمَّا خَشِيتُ أَظَافِيرهُمْ *** نَجَوتُ وأرْهَنْتُهم مَالِكاً

على أرهنتهم على أنه يجوز‏:‏ رهنته، وأرهنته إلا الأصمعي، فإنه رواه‏:‏ وأرهنهم على أنه عطف لفعل مستقبل على فعل ماض وشبهه بقوله قمت، وأصك وجهه‏.‏ وقال ابن السكيت‏:‏ أرهنت فيهما بمعنى أسلفت، والمرتهن الذي يأخذ الرهن، والشيء مرهون، ورهين، وراهنت فلاناً على كذا مراهنة خاطرته‏.‏ وقد ذهب الجمهور إلى اعتبار القبض، كما صرح به القرآن، وذهب مالك إلى أنه يصح الارتهان بالإيجاب، والقبول من دون قبض‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ الذى اؤتمن أمانته‏}‏ أي‏:‏ إن كان الذي عليه الحق أميناً، عند صاحب الحق لحسن ظنه به، وأمانته لديه، واستغنى بأمانته عن الارتهان ‏{‏فَلْيُؤَدّ الذى اؤتمن‏}‏ وهو‏:‏ المديون ‏{‏أمانته‏}‏ أي‏:‏ الدين الذي عليه، والأمانة مصدر سمي به الذي في الذمة، وأضافها إلى الذي عليه الدين من حيث أن لها إليه نسبة، وقريء‏:‏ «ايتمن» بقلب الهمزة ياء، وقريء بإدغام الياء في التاء، وهو خطأ؛ لأن المنقلبة من الهمزة لا تدغم؛ لأنها في حكمها ‏{‏وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ‏}‏ في أن لا يكتم من الحق شيئاً‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة‏}‏ نهي للشهود أن يكتموا ما تحملوه من الشهادة، وهو في حكم التفسير لقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ‏}‏ أي‏:‏ لا يضارر بكسر الراء الأولى على أحد التفسيرين المتقدّمين‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ‏}‏ خص القلب بالذكر؛ لأن الكتم من أفعاله، ولكونه رئيس الأعضاء، وهو المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد كله، وارتفاع القلب على أنه فاعل، أو مبتدأ، وآثم خبره على ما تقرر في علم النحو، ويجوز أن يكون قلبه بدلاً من آثم بدل البعض من الكل، ويجوز أن يكون أيضاً بدلاً من الضمير الذي في آثم الراجع إلى من، وقريء‏:‏ «قلبه» بالنصب كما في قوله ‏{‏إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 130‏]‏‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ‏}‏ قال‏:‏ نزلت في السلم في كيل معلوم إلى أجل معلوم‏.‏

وأخرج الشافعي، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، والبخاري، وغيرهم عنه قال‏:‏ أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أجله، وقرأ هذه الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه في الآية‏.‏ قال‏:‏ أمر بالشهادة عند المداينة لكيلا يدخل في ذلك جحود، ولا نسيان، فمن لم يشهد على ذلك، فقد عصى ‏{‏وَلاَ يَأْبَ الشهداء‏}‏ يعني من احتيج إليه من المسلمين ليشهد على شهادة، أو كانت عنده شهادة، فلا يحلّ له أن يأبى إذا ما دُعي، ثم قال بعد هذا‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ‏}‏ والضرار أن يقول الرجل للرجل، وهو عنه غنيّ إن الله قد أمرك أن لا تأبى إذا دعيت، فيضارّه بذلك، وهو مكتف بغيره، فنهاه الله عن ذلك‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ معصية‏.‏ قال‏:‏ ومن الكبائر كتمان الشهادة، لأن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ‏}‏‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ‏}‏ قال‏:‏ واجب على الكاتب أن يكتب‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن الضحاك قال‏:‏ كانت الكتابة عزيمة، فنسخها ‏{‏وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، قال‏:‏ ‏{‏فَإن كَانَ الذى عَلَيْهِ الحق سَفِيهًا‏}‏ قال‏:‏ هو الجاهل‏.‏ ‏{‏أَوْ ضَعِيفًا‏}‏ قال‏:‏ هو الأحمق‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن الضحاك، والسدي، في قوله‏:‏ ‏{‏سَفِيهًا‏}‏ قالا‏:‏ هو الصبيّ الصغير‏.‏ وأخرج ابن جرير، من طريق عطية العوفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ‏}‏ قال صاحب الدين‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن الحسن قال‏:‏ ولي اليتيم‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن الضحاك‏:‏ قال وليّ السفيه، أو الضعيف‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن المنذر، والبيهقي، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏مّن رّجَالِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ من الأحرار‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن الربيع في قوله‏:‏ ‏{‏مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء‏}‏ قال‏:‏ عدول‏.‏ وأخرج الشافعي، والبيهقي، عن مجاهد قال‏:‏ عدلان حران مسلمان‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا‏}‏ يقول أن تنسى إحدى المرأتين الشهادة ‏{‏فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى‏}‏ يعني تذكرها التي حبطت شهادتها‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْبَ الشهداء‏}‏ قال‏:‏ إذا كانت عندهم شهادة‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الربيع قال‏:‏ كان الرجل يطوف في القوم الكثير يدعوهم يشهدون، فلا يتبعه أحد منهم، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْبَ الشهداء‏}‏‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة نحوه‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن عائشة في قوله‏:‏ ‏{‏أَقْسَطُ عِندَ الله‏}‏ قالت‏:‏ أعدل‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ‏}‏ قال‏:‏ يأتي الرجل الرجلين، فيدعوهما إلى الكتابة، والشهادة، فيقولان إنا على حاجة، فيقول إنكما قد أمرتما أن تجيبا، فليس له أن يضارّهما‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن طاوس‏:‏ ‏{‏لا يُضَارَّ كَاتِبٌ‏}‏، فيكتب ما لم يُملّ عليه ‏{‏وَلاَ شَهِيدٌ‏}‏ فيشهد بما لم يستشهد‏.‏

وأخرج ابن جرير، عن الضحاك في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ‏}‏ الآية، قال‏:‏ من كان على سفر، فبايع بيعاً إلى أجل، فلم يجد كاتباً، فرخص له في الرهان المقبوضة، وليس له إن وجد كاتباً أن يرتهن‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال‏:‏ لا يكون الرهن إلا في السفر‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، قال‏:‏ لا يكون الرهن، إلا مقبوضاً‏.‏ وأخرج البخاري في تاريخه، وأبو داود، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن ماجه، وأبو نعيم، والبيهقي، عن أبي سعيد الخدري، أنه قرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ‏}‏ حتى بلغ ‏{‏فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا‏}‏ قال‏:‏ هذه نسخت ما قبلها‏.‏ وأقول‏:‏ رضي الله عن هذا الصحابي الجليل، ليس هذا من باب النسخ، فهذا مقيد بالائتمان، وما قبله ثابت محكم لم ينسخ، وهو مع عدم الائتمان‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن السدّي في قوله‏:‏ ‏{‏قَلْبُهُ والله‏}‏ قال‏:‏ فاجر قلبه‏.‏ وأخرج ابن جرير، بإسناد صحيح، عن سعيد بن المسيب أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين‏.‏ وأخرج أبو عبيد في فضائله، عن ابن شهاب قال‏:‏ آخر القرآن عهداً بالعرش آية الربا، وآية الدين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏284‏]‏

‏{‏لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏284‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏للَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض‏}‏ قد تقدّم تفسيره‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ‏}‏ إلى آخر الآية، ظاهره أن الله يحاسب العباد على ما أضمرته أنفسهم، أو أظهرته من الأمور التي يحاسب عليها، فيغفر لمن يشاء منهم ما يغفره منها، ويعذب من يشاء منهم بما أسرَّ، أو أظهر منها، هذا معنى الآية على مقتضى اللغة العربية‏.‏

وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية على أقوال‏:‏ الأول‏:‏ أنها، وإن كانت عامة، فهي‏:‏ مخصوصة بكتمان الشهادة، وأن الكاتم للشهادة يحاسب على كتمه، سواء أظهر للناس أنه كاتم للشهادة، أو لم يظهر‏.‏ وقد روى هذا عن ابن عباس، وعكرمة، والشعبي ومجاهد، وهو‏:‏ مردود بما في الآية من عموم اللفظ، ولا يصلح ما تقدم قبل هذه الآية من النهي عن كتم الشهادة أن تكون مختصة به‏.‏ والقول الثاني أن ما في الآية مختص بما يطرأ على النفوس من الأمور التي هي بين الشك، واليقين، قاله مجاهد، وهو أيضاً‏:‏ تخصيص بلا مخصِّص‏.‏ والقول الثالث‏:‏ أنها محكمة عامة، ولكن العذاب على ما في النفس يختص بالكفار، والمنافقين‏.‏ حكاه الطبري عن قوم، وهو أيضاً‏:‏ تخصيص بلا مخصِّص، فإن قوله‏:‏ ‏{‏يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء‏}‏ لا يختص ببعض معين إلا بدليل‏.‏ والقول الرابع‏:‏ أن هذه الآية منسوخة، قاله ابن مسعود، وعائشة، وأبو هريرة، والشعبي، وعطاء، ومحمد بن سيرين، ومحمد بن كعب، وموسى بن عبيدة، وهو مرويّ، عن ابن عباس، وجماعة من الصحابة، والتابعين، وهذا هو الحق لما سيأتي من التصريح بنسخها، ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الله غفر لهذه الأمة ما حدثت به أنفسها» قوله‏:‏ ‏{‏يُحَاسِبْكُم بِهِ الله‏}‏ قدم الجار، والمجرور على الفاعل لإظهار العناية به، وقدم الإبداء على الإخفاء؛ لأن الأصل في الأمور التي يحاسب عليها هو الأعمال البادية، وأما تقديم الإخفاء في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 29‏]‏ فلكون العلم يتعلق بالأعمال الخافية، والبادية على السوية‏.‏ وقدم المغفرة على التعذيب؛ لكون رحمته سبقت غضبه، وجملة قوله‏:‏ ‏{‏فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء‏}‏ مستأنفة، أي‏:‏ فهو يغفر، وهي متضمنة لتفصيل ما أجمل في قوله‏:‏ ‏{‏يُحَاسِبْكُم بِهِ الله‏}‏ وهذا على قراءة ابن عامر، وعاصم‏.‏ وأما على قراءة ابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، وحمزة، والكسائي بجزم الراء، والباء، فالفاء عاطفة لما بعدها على المجزوم قبلها، وهو‏:‏ جواب الشرط، أعني قوله‏:‏ ‏{‏يُحَاسِبْكُم بِهِ الله‏}‏‏.‏ وقرأ ابن عباس، والأعرج، وأبو العالية، وعاصم الجحدري بنصب الراء، والباء في قوله‏:‏ ‏{‏فَيَغْفِرُ‏}‏ ‏{‏وَيُعَذّبَ‏}‏ على إضمار أن عطفاً على المعنى‏.‏

وقرأ طلحة بن مصرف يغفر بغير فاء على البدل، وبه قرأ الجعفي، وخلاد‏.‏

وقد أخرج أحمد، ومسلم، وأبو داود في ناسخه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي هريرة قال‏:‏ لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏للَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ‏}‏ الآية اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جثوا على الركب، فقالوا‏:‏ يا رسول الله كُلِّفْنا من الأعمال ما نطيق الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة، وقد أنزل الله عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أتريدون أن تقولوا، كما قال أهل الكتابين من قبلكم‏:‏ سمعنا، وعصينا، بل قولوا‏:‏ ‏{‏سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير‏}‏» فلما اقترأها القوم، وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها‏:‏ ‏{‏آمنَ ‏;‏لرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ‏}‏ الآية، فلما فعلوا ذلك نسخها الله، فأنزل‏:‏ ‏{‏لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ إلى آخرها‏.‏ وأخرج أحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم، والبيهقي، عن ابن عباس مرفوعاً نحوه، وزاد، فأنزل ‏{‏رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا‏}‏ قال‏:‏ قد فعلت‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا‏}‏ قال‏:‏ قد فعلت‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ‏}‏ قال‏:‏ قد فعلت‏:‏ ‏{‏واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنا‏}‏ الآية، قال‏:‏ قد فعلت‏.‏ وقد رويت هذه القصة، عن ابن عباس من طرق‏.‏ وأخرج البخاري، والبيهقي عن مروان الأصفر، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحسبه ابن عمر‏:‏ ‏{‏إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ‏}‏ قال‏:‏ نسختها الآية التي بعدها‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، والترمذي، عن علي نحوه‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، والطبراني، عن ابن مسعود، نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن عائشة نحوه أيضاً‏.‏

وبمجموع ما تقدم يظهر لك ضعف ما أخرجه سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال‏:‏ نزلت في كتمان الشهادة، فإنها لو كانت كذلك لم يشتد الأمر على الصحابة‏.‏ وعلى كل حال، فبعد هذه الأحاديث المصرّحة بالنسخ، والناسخ لم يبق مجال لمخالفتها، ومما يؤيد ذلك ما ثبت في الصحيحين، والسنن الأربع من حديث أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم، أو تعمل به» وأخرج ابن جرير، عن عائشة قالت‏:‏ كل عبدٍ همَّ بسوءٍ، ومعصيةٍ، وحدَّث نفسه به حاسبه الله في الدنيا يخاف، ويحزن ويشتدُّ همُّه لا يناله من ذلك شيئاً، كما هم بالسوء، ولم يعمل منه بشيء‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، عنها نحوه، والأحاديث المتقدمة المصرِّحة بالنسخ تدفعه‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس قال‏:‏ إن الله يقول يوم القيامة‏:‏ إن كتَّابي لم يكتبوا من أعمالكم إلا ما ظهر منها، فأمَّا ما أسررتم في أنفسكم، فأنا أحاسبكم به اليوم، فأغفر لمن شئت، وأعذب من شئت، وهو مدفوع بما تقدم‏.‏